أبوبكر عبد الله صائغ
كل شرائح المجتمع الإرتري كانت حاضرة ومتفاعلة مع الحراك السياسي في مناهضة الاستعمار الإثيوبي البغيض، وكان للفنانين والشعراء حضور ومساهمة في التفاعل مع قضايا الأمة، وكانت الأغاني والأهازيج إحدى أهم الوسائل التي استخدمها الفنانون للتعبير عن مطالب شعبهم في بداية الحراك الوطني السلمي ضد الاستعمار الإثيوبي الغاشم.
وعند انطلاق الكفاح المسلح اتخذ الفن أسلوب الأغنية الرمزية التي لعبت دورا مهما في توعية الناس بالمخاطر المحدقة، وتماهت مع تطلعاتهم وعمقت فيهم حب الوطن والتضحية، وكان لعميد الفن الإرتري ومبدع الرمزية الفنية ورائدها الراحل المقيم الأمين عبد اللطيف، دورا بارزا في هذا اللون من الغناء، حيث لم تخلو مناسبة وطنية أو اجتماعية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي من الصدح بأغنيته الشهيرة “فاطمة زهرة”. فهمت هذه الأغنية لكل من استمع إليها بأن ” فاطمة زهرة ” ترمز لإرتريا، وكانت ملهمة للجماهير باعتبارها أغنية وطنية.
ولاد عجي حسبوكم ….. رئيكوما منقبي إت قبيكم سلام بولا إقليى حسبوكم
ولاد كرن وعسنبا رئيكوما من قبئ إت ماى زرا سلام بولا إقليي ” فاطنة زهرة “
وبعد أن أصبحت الثورة الإرترية واقعا، بات الشعراء يتغنون بالثورة ويستلهمون الشعر من انتصارات الثوار في معاركهم ضد قوات المستعمر، مواكبين بذلك الفعل المقاوم فكلماتهم تكون رديفًا للبندقية وألحانهم سبيلًا لإشعال الحماسة وتغذية للروح الثورية لدى الشباب.
ويقول الشاعر والفنان الثوري محمد عبد الله با عيسى في مطلع إحدى قصائده:
يومتي سكاب بدى …… وخلاص جهاد مطا هروسوا لتهرقتا
جهاد ربي كتبيوا …… كمسل فرض ديب أمتْ
عيسى يهود حاربا ….. وحقوهو محمد ويوم إنتم حاروبوم …. وأرهوا لأمتْ
ظالم ربي كفيو …. وحقيي لبيلا لتعوت
ويقول في مقطع آخر من تلك الأغنية :
ثورة هليت ديب عدنا …… من باضع ديب بركة
سبنا إندى شتتا …… يساقما ويسبكا
حامد إدريس عواتى ……. حيت لقيدوا بتكا
تحولت هذه الكلمات التي ترنم بها الفنان محمد عبد الله با عيسى في الستينيات إلى نشيد يُردده الصغير والكبير، كونه يُحرّض الثوار على الاستمرار في التضحية والعطاء من ناحية، ويستنهض الهمم ويقوي العزائم من ناحية أخرى، من أجل دحر الاحتلال والنصر والتحرير.
مع ازدياد وتيرة العمليات العسكرية للثوار الذين كبدوا فيها قوات العدو خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، ومع اتباع قوات الإمبراطور أساليب وحشية وبربرية بقصد الترويع والترهيب وكسر شوكة المقاومة، وقيامها بتعليق جثامين الشهداء في الساحات العامة في المدن، كان شاعر الثورة والفنان أحمد با عيسى حاضرا حيث عبر في أغنيته بمناسبة تعليق جثامين شهداء معركة “قلب” الـ 21 :
عسرا وأوروت شقلو خبرمطيني مالي
حقو حونا شقلو إي توجبنا قندالي.
ارتريا نفرح اب استقلالا لمنديرت نأطلل حن عدالا.
كان لهذه الأغاني أثرها في صمود الشعب الإرتري وتدافع شبابه إلى الميدان فرادى وجماعات، ومع تطور الثورة أسست تنظيمات الثورة فرق فنية متخصصة، والتي كان لها دور كبير في استقطاب المزيد من الشباب للالتحاق بميدان القتال، وخلق الحماس أثناء القتال، والترفيه أثناء استراحة المحارب.
وفي فترة ما بعد الاستقلال لعب الفن دوره في التغني بالبطولات التي حققتها الثورة والشهداء ومكانتهم ومواساة أسرهم، وأيضا توجيه الطاقات إلى بناء ما دمرته الحرب والتطلع إلى المستقبل المشرق.
وتمشيا مع مناخ الحرية والانفراج ظهرت أيضا الأغاني العاطفية التي تستهوي وتلبي رغبات الشباب من الجنسين، لأن الفنان بطبعه يبحث عن الاستمرارية لموهبته ومن هذا المنطلق يتفاعل مع أحداث وحاجات مجتمعة سلما وحربا.
وعند انفجار الحرب الإرترية الاثيوبية الأخيرة تفاعل معها الفنانون وتغنوا لشحذ الهمم للدفاع عن سيادة الوطن وكرامته مستحضرين ماضينا النضالي وأمانة الشهداء وعزة ومكانة الوطن عند الشعب الإرتري الذي خاض حربا ضروسا في سبيل الاستقلال، وفي هذا المقام نذكر بعض النماذج:
شكناه لكري ديب مدرنا . اساتو اب اسات نأقسنا.
شكناه إي كري ات مدرنا ربي عسر وكت لإي نعليو
باقع نبر هلا أسك إلا أسيوف أدبر ساحل لسحليو
للفنان إدريس محمد علي فك الله أسره.
وأغنية الفنان إبراهيم محمد علي قورت التي يقول فيها:
ارتريا حريرت إي لتمتم مقطنا. هلا اقلا أونن لتولدو من رحما.
وبمجرد أن وضعت الحرب أوزارها بانت خبايا النظام الحاكم ومشروعه الإقصائي وتضييقه على كل الشرفاء، لا سيما الفنانين والشعراء والتي وصلت حد الاغتيالات المعنوية والتصفية الجسدية بالإضافة للتهجير القسري والتغييب، حينها عادت الأغاني الرمزية مجددا حيث برزت أصوات تتغني بأغانٍ ومسرحيات شعرية ذات دلالات وطنية تفضح ممارسات النظام وتنكيله بالشعب الإرتري وسياسة التهميش والإقصاء التي ينتهجها، واثقين من أنه حتما سيذهب إلى مزبلة التاريخ أسوة بهيلي سلاسي، ومنقستو، وغيرهم من الحكام المستبدين في المنطقة.
نقلا عن مجلة الناقوس الثقافية العدد السادس