ترجمة: علاء الدين أبو زينة
تقرير خاص – (الإيكونوميست) 26/5/2022
أسمرة – في ركن قصي في حانة هادئة في أسمرة، عاصمة إريتريا، يضع مولوغيتا (اسم مستعار) خطة للهروب من البلد. وكان قد أجرى اتصالاً مع مهربي البشر الذين يقولون إنهم سيرتبون له العبور إلى السودان. ودفع أشقاؤه الأكبر سناً الموجودون في أميركا الأجرة عنه. ومن السودان، سوف يسافر إلى ليبيا -ثم إلى أوروبا. لكنه يلتزم الصمت بشأن خطته ولا يجاهر بشيء: يحتاج الشاب في إريتريا إلى إذن من الجيش كي يتحركوا بحرية. ويخشى مولوغيتا أن يتم تجنيده وإرساله للقتال في إثيوبيا. وهو لا يريد أن يموت في حرب أهلية تجري في بلد آخر.
قبل أربع سنوات، اعتقد الشباب الإريتريون أنهم يشهدون إيماءة عن مستقبل أكثر تفاؤلاً. جاء آبي أحمد، رئيس وزراء إثيوبيا الجديد، إلى أسمرة واحتضن أسياس أفورقي، دكتاتور إريتريا. ووقَّع الاثنان اتفاق سلام ينهي أحد أكثر الصراعات طولاً في إفريقيا، والمتمثل في حرب حدودية دامية أودت بحياة أكثر من 80 ألف شخص. وقد تكثفت هذه الحرب إلى حد كبير منذ حوالي عقدين من الزمن من أجل السيطرة على بعض منحدرات التلال القاحلة على طول الحدود مع منطقة تيغراي الإثيوبية.
ولكن، بحلول أواخر العام 2020، عادت إريتريا إلى الحرب. لكنها كانت هذه المرة حليفة للحكومة الإثيوبية في حملتها الشرسة ضد “جبهة تحرير شعب تيغراي”، وهي مليشيا حزبية تدير الإقليم. ومرة أخرى، صدرت أوامر إلى المجندين الإريتريين بدخول تيغراي، حيث مارسوا القتل والاغتصاب ونهبوا البلدات بشكل واسع النطاق لدرجة أن شوارع أسمرة تردد هذه الأيام هدير أصوات الشاحنات الإثيوبية المسروقة.
آبي، الذي نفى في البداية وجود القوات الإريترية في إثيوبيا، وعد أخيرًا في آذار (مارس) 2021 بسحبها. ومع ذلك، تبين على مدار أكثر من عام كامل أن كلماته كانت جوفاء. وحتى بعد طرد الجيش الإثيوبي من معظم منطقة تيغراي في حزيران (يونيو) من العام الماضي، فقد بقيت فيها أعداد كبيرة من القوات الإريترية. وفي العام الماضي، ساعدت هذه القوات في فرض حظر على معظم شحنات المواد الغذائية إلى تيغراي، مما دفع ما يقرب من مليون شخص إلى حافة المجاعة. والآن، يجري التغيير على قدم وساق. في آذار (مارس) وافقت إثيوبيا على هدنة هشة مع “جبهة تحرير شعب تيغراي”، الأمر الذي أحيا الآمال في حلول سلام دائم في تيغراي. وفي وقت أقرب، انسحبت القوات الإريترية باتجاه الحدود.
يعتمد مسار الحرب الأهلية في إثيوبيا الآن إلى حد كبير على متى وكيف تغادر القوات الإريترية إثيوبيا. وقد انطوى أسياس على ضغينة ضد “جبهة تحرير شعب تيغراي” منذ أن قاتل إلى جانبها للإطاحة بالديكتاتورية العسكرية الماركسية في إثيوبيا، وهو ما فعلوه في العام 1991. وبعد عامين، انفصلت إريتريا عن الاتحاد الإثيوبي. ومع ذلك، ولأن أسياس كان يعتقد منذ فترة طويلة بأن “جبهة تحرير شعب تيغراي” عازمة على غزو إريتريا والإطاحة به -وهي تهمة كررتها حكومته مؤخرًا- فإن من غير المرجح أن يسحب قواته طواعية من دون أن يقوم أولاً بتحطيم “الجبهة”.
كما أنه من غير المرجح أن يتفاوض. يقول مسؤول غربي مشارك في الوساطة بين آبي وجبهة تحرير شعب تيغراي: “لقد عرضنا باستمرار إشراك إريتريا في بحث كيفية خفض التصعيد. لكنهم لم يظهروا استعدادًا لذلك”. ويشعر بعض الدبلوماسيين بالقلق الآن من أن جبهة تحرير شعب تيغراي قد تغامر بالهجوم شمالًا على أسمرة إذا استمر أسياس في رفض الانضمام إلى المحادثات.
خلف كل هذا ثمة السؤال الذي يطرح نفسه: إلى أي مدى يمكن لمواطني أسياس الذين طالت معاناتهم أن يتحملوا؟ للإجابة عن هذا السؤال، سافر مراسل مجلة “الإيكونوميست” مؤخرًا إلى إريتريا، التي تمنع عادةً دخول الصحفيين الأجانب. وكان معظم الأشخاص الذين قابلهم متشككين في إمكانية كسب الصراع ضد جبهة تحرير شعب تيغراي، وألقوا باللوم على أسياس في جر إريتريا إلى ذلك الصراع. ويقول أحد القساوسة: “لقد سئمنا الحرب. أولادنا يموتون من أجل شيء ليس فيه أي فائدة لنا”.
المقاهي والحانات التي كانت مكتظة بالشباب أصبحت في الغالب فارغة. وفي السوق المركزي في أسمرة، تتعفن أكوام الفاكهة في الأكشاك، بينما أرفف المحلات شبه عارية، باستثناء ما يمكن تهريبه من السودان. ومع اندلاع الحرب، توقف تدفق الممنوعات من إثيوبيا فجأة. وتنفد الصيدليات من الأدوية الأساسية مثل المسكنات.
حتى قبل الحرب، كان نظام إريتريا للتجنيد الوطني الإجباري غير المحدود قد حوّلها إلى واحدة من أسرع دول العالم فراغاً من السكان. ثمة قلة من الشباب الآن يغادرون منازلهم بعد حلول الظلام خوفًا من أخذهم للتجنيد الإجباري. ويبدو أن عمليات جمع الشباب من أجل الخدمة العسكرية في تصاعد: تم افتتاح معسكر تدريب جديد بالقرب من أسمرة في آذار (مارس). ويفر كل شهر مئات الأشخاص عبر الحدود إلى السودان. يقول مولوغيتا: “إريتريا مثل سجن عملاق”. وتستنزف الهجرة قسماً كبيراً من المجندين المحتملين، لكنها أيضًا تجعل مقاومة حكم أسياس -وحربه- أقل احتمالًا.
ثمة سؤال آخر يتعلق بالعلاقة بين آبي وأسياس. ويقول إريتري يعمل في سفارة أجنبية في أسمرة: “يريد آبي أن تنتهي الحرب، ولذلك أسياس غير سعيد”. في كانون الثاني (يناير)، بعد يوم من إطلاق آبي سراح بعض قادة جبهة تحرير شعب تيغراي من السجن، أجرى أسياس مقابلة على الأثر، ادعى فيها الحق في التدخل في إثيوبيا للقضاء على “إثارة المشاكل” التي تمارسها جبهة تحرير شعب تيغراي. ومنذ ذلك الحين، قام آبي بعدة زيارات إلى أسمرة، ربما لإقناع أسياس بعدم تقويض الهدنة. ويحذر دبلوماسي إثيوبي من أنه “طالما استمر أسياس في التدخل في الشؤون الداخلية لإثيوبيا، فإن تحقيق السلام لن يكون ممكناً”.
قد يكون أحد الأهداف الأريترية هو منع القوات التيغرية من الوصول إلى الحدود مع السودان، التي يمكن أن تستخدمها لجلب الإمدادات. ويقول جندي في أسمرة: “إذا استطاعت جبهة تحرير شعب تيغراي تحقيق الوصول إلى هناك، فسيعني هذا أن يصبح أمن إريتريا معرضاً للخطر”. ويثير هذا أيضًا قلق المسؤولين في أمهرة، وهي منطقة تقع إلى الجنوب من تيغراي، والتي تقاتل قواتها للسيطرة على الأراضي الواقعة على طول الحدود السودانية التي استولت عليها في بداية الحرب. وقد أصبح قادة أمهرة أقرب إلى نظرائهم في إريتريا، الذين استضافوا ودربوا الآلاف من رجال ميليشيات الأمهرة. وفي الأسبوع الماضي، اعتقلت حكومة آبي أحمد آلاف المنتقدين وزعماء الميليشيات في أمهرة، ربما لتقليل خطر أن تصبح تلك المنطقة تهديدًا للحكومة الفيدرالية.
ما تزال الآمال في تحقيق السلام حية. والقادة التيغريون والإثيوبيون على اتصال منتظم. وتم السماح بدخول المئات من شاحنات الإغاثة إلى تيغراي، وإن لم يكن العدد كافياً بعد. وهذا الأسبوع أفرجت جبهة تحرير شعب تيغراي عن آلاف أسرى الحرب. ومع ذلك، فإن كلا الجانبين يستعدان أيضًا لجولة أخرى من القتال. في الثاني من أيار (مايو)، قالت جبهة تحرير شعب تيغراي إنها تتوقع هجومًا جديدًا من إريتريا. وبعد أسبوع من ذلك، اتهم المسؤولون الإثيوبيون جبهة تحرير شعب تيغراي بمهاجمة القوات الإريترية في راما وبادمي، نفس موقع المعركة التي كانت قد أشعلت فتيل الحرب الحدودية في العام 1998. ويمكن لزلة قدم واحدة خاطئة أن تؤدي مرة أخرى إلى الكارثة.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Issaias’s army: Inside Eritrea, Africa’s gulag state
_
المصدر ..