ذكرى التأسيس التاسعة لرابطة أبناء المنخفضات الإرترية

 

يصادف اليوم الذكرى التاسعة لتأسيس رابطة أبناء المنخفضات الإرترية، حيث أُعلن عنها في سيمنار موسع في لندن في 29 مارس 2014م. وهي لا تأتي مناسبة للاحتفاء فحسب، بل أيضًا وقفة للتدبّر والتفكير في قرابة عقد من الزمان تخللته نجاحات عديدة ولم يخلو من إخفاقات، وهي أيضًا فرصة للتذكير بالمبادئ الأساسية التي قامت عليها الرابطة وظلت تعض عليها بالنواجذ طوال السنوات الماضية، والتي تمثلت في التشخيص الواضح لواقع الهيمنة القومية الذي هو أس المشاكل التي تعاني منها إرتريا وإعلانها بأنها تُعنى بمجتمع المنخفضات الإرترية بصورة خاصة والوطن بصورة عامة وذلك من خلال اسم يعبر عن ذاته، كما اعتمدت أسلوب العمل المدني كأفضل وسيلة لتأطير عضويتها وإيصال رسالتها، ومارست مبدأ الاعتماد على الذات منذ نشأتها، ووضعت نصب عينها بأن الصراع في أحد أوجهه صراع ثقافي ومحاولة لطمس الهوية، وعملت على ترسيخ مبدأ تمكين المرأة وارتأت أن تخلق نقاط تماس فعلية مع مجتمعها من خلال مد يد العون للشرائح الأضعف قدر استطاعتها.

إن تشخيص الواقع السياسي الإرتري لم يأت من دوافع عاطفية أو نظرة ظاهرية لمجريات الأوضاع، بل جاء نتيجة لدراسة مستفيضة لتأريخ إرتريا منذ حقبة تقرير المصير في أربعينيات القرن الماضي وما تلاها من صراع سياسي أدى في نهاية المطاف لإلحاق إرتريا بإثيوبيا بعد أن تغوّلت الأخيرة على الوضع الفيدرالي الذي كان قائما، ولم يكن ذلك ليحدث دون المشاركة المباشرة والفعالة بشتى الأساليب لنخب التجرينية وتغليبها لمصالحها القومية الذاتية على مصالح مجموع مكونات الوطن المتعددة والتي لم تكن ترى في ذلك الإلحاق عودة إلى حضن الأم كما كانت تراه نخب التجرينية، بل على العكس كانت تصبو للاستقلال التام وإقامة دولة ذات سيادة تتسع لجميع أبنائها وتستوعب تنوعهم القومي والثقافي والديني.

إن  الواقع السياسي الذي نعيشه اليوم لا يختلف عن واقع الاستقطاب ذاك الذي تم سرده، بل هو نتيجة طبيعة له. وها نحن نرى بعد أكثر من ثلاث عقود من اندحار الاستعمار الإثيوبي، ذات المؤشرات السالبة التي تضع استقلال إرتريا على المحك من أجل مصالح ذاتية، سواء قرأناها من منطلق المصلحة القومية للفئة الحاكمة وحاضنتها الاجتماعية أو من منطلق أن نظام الهيمنة القومية الذي يجثم على صدر شعبنا بزعامة الدكتاتور أفورقي قد يمضي إلى أبعد مدى من أجل البقاء على سدة الحكم والإفلات من العقاب على انتهاكاته المستمرة لحقوق المواطنين في أنفسهم وأموالهم وأرضهم والتي ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية حسب الأعراف الدولية.

أما الاسم، فكان لزامًا أن يأتي معبرًا عن الخصوصية والمدى الجغرافي والبشري لتواجد المجتمع وقد جلب ذلك على الرابطة تأويلات كثيرة جانبت الصواب، ولكن مع مرور الوقت ووضوح الخطاب السياسي والتفاعل الإيجابي للرابطة مع المكونات الأخرى وخاصة تلك التي يقع عليها الضيم وتتعرض للإقصاء والتهميش، تقبلت الساحة حق أن يسعى المجتمع لترتيب بيته الداخلي وبيان المظالم الواقعة عليه والمطالبة بحقوقه السليبة وأن يعبر عن توقه للمساهمة الفاعلة في الشأن الوطني العام بما يتماشى وتاريخه وحجمه وأن يكون له نصيبه المستحق في السلطة والثروة.

وقد أسست الرابطة منذ نشأتها لمبدأ الاعتماد على الذات حتى تحتفظ باستقلالية قرارها وتمكنت من بث روح البذل والعطاء من جديد في أبناء المجتمع ما مكنها من عقد سيمناراتها ومؤتمراتها ومهرجاناتها الثقافية وتسيير أعمالها اعتمادا على تبرعات أعضائها فقط.

وقد امتد هذا البذل والعطاء ليخلق نقاط تماس عديدة مع المجتمع، وبالذات الشرائح الأكثر ضعفًا في مناطق اللاجئين وأطراف المدن، وتمثل ذلك في مشاريع شملت قطاع الرعيل الأول الذين حازوا قصب السبق في النضال واعترافًا بتضحياتهم وتقديرا لتمهيدهم الطريق نحو الاستقلال التام.

كما أولت الرابطة اهتماما متزايدًا بالتعليم من خلال دعم المدارس والاهتمام بالطلاب وتأهيلهم وتدريبهم ورصد المتفوقين منهم وتكريمهم، والاهتمام بالشباب وتقديم الدورات التدريبية التي تسهم في دخولهم سوق العمل، بالإضافة إلى رصد الظواهر السلبية التي يتعرضون لها ومحاربتها من خلال العمل التوعوي.  كما كان للمرأة نصيبًا مقدرًا من الاهتمام من خلال عقد دورات تأهيلية في مجالات متعددة تشمل تصميم الملابس والخياطة وحثهن ومساعدتهن لإقامة مشاريع صغيرة تعود بالفائدة على الأسر ذات الدخل المحدود.

إن رابطة أبناء المنخفضات الإرترية وهي تقدم خدماتها تعتمد في تمويلها على عضويتها وعلى الخيرين من أبناء المجتمع، وتقدم خدماتها للشرائح الأكثر ضعفًا في المجتمع الإرتري دون تفرقة بين مكوناته، سواء كان ذلك في الجوانب التعليمية، أو في الخدمات الإنسانية المتعلقة بكفالة الأيتام، والزكوات والسلة الرمضانية التي يقدمها أعضاء الرابطة لمجتمعهم.

كما وضعت الرابطة من ضمن أولوياتها قضايا الأرض واللاجئين ونقلت هذه الهموم إلى منصات المنظمات الدولية في بانجول وجنيف ونيويورك وهي قضايا تجنبت إيرادها معظم قوى المعارضة التي وصلت لهذه المنصات الدولية قبل الرابطة وكان تركيزها فقط على مقارعة دكتاتورية النظام الحاكم. حيث إن المظالم المتعلقة بالأرض واللاجئين من القضايا التي ما انفكت الرابطة تركز عليها وتطرحها في كل المحافل التي تستطيع اسماع صوتها فيها لأن ضمان سلامة كيان مجتمع المنخفضات حاضرًا ومستقبلا تتطلب وجود العنصر البشري واستعادة الأرض وكل ما تهبه من ثروات على ظهرها وفي باطنها.

وأولت الرابطة إحياء التراث المنخفضاتي بكل تنوعه الأهمية التي تستوجبها طبيعة الصراع كما سلف ذكره والذي تعرض ولا يزال للتهميش والتشويه على يد الطغمة الحاكمة وسياستها الرامية لأحادية الثقافة، فقدمت في ذلك الأوراق المتخصصة وأقامت المهرجانات الثقافية وأوضحت بجلاء موقفها من اللغة العربية كخيار مدروس وليس فقط كواقع كان موجودا ويجب أن يستمر كمكتسب تاريخي، لأن موضوع اللغة بالذات مرتبط بالتعليم ووحدة الثقافة وفرص العمل في الدوائر والدواوين الحكومية صعودا إلى مواقع صناعة القرار الوطني في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية وغير ذلك من المجالات الحيوية التي لا تحتمل أن تدار من قبل مجموعة ثقافية وإثنية ولغوية واحدة.

وحيث أن المرأة تشكل نصف المجتمع ومساهماتها مشهودة عبر الحقب التاريخية في كافة المجالات، ركزت الرابطة على أن تأخذ مكانها المستحق عن جدارة في منظومة عمل الرابطة ولم تكن محض صدفة أن تبوأت رئاسة أول مجلس للرابطة سيدة والآن أيضا تترأس مجلس الرابطة سيدة، هذا فضلًا عن تواجدها في الهيئة التنفيذية في الدورات السابقة والدورة الحالية. وحتى في مجال العمل الإنساني استهدفت الرابطة النساء اللاتي يُعِلن أسرهن بجهودهن الذاتية.

وضمن الجهد الوطني والسعي مع الأطراف والقوى السياسية الإرترية الأخرى للوصول إلى صيغة ضامنة لبقاء الوطن الإرتري موحدا ومستقلا وآمنا، قدمت رابطة أبناء المنخفضات الإرترية، الملامح الرئيسية لرؤيتها لكيفية حل معضلة الحكم في إرتريا في الورشة التي نظمها معهد فيلسبيرغ في ألمانيا في نوفمبر 2015م، كما أن الرابطة قد ضمّنت رؤيتها هذه للحل في ورقة العقد الاجتماعي التي تمت مناقشتها وإقرارها في المؤتمر التأسيسي للرابطة الذي عقد في ستوكهولم في يوليو 2016م وأخيرًا وضعت هذه الرؤية في مبادرة “العقد الاجتماعي” وأعلنت عنها رسميًا في ختام فعاليات مهرجانها الثقافي الثالث الذي أقيم في لندن في إبريل 2017م مع دعوة لجميع أصحاب المصلحة للتداول حولها.

وقد بينت المبادرة رؤية الرابطة لمنهجية الحكم وإدارة شؤون الدولة الإرترية وأنها لا يمكن أن تكون عادلة وقابلة للاستمرار إلى إذا توافقت القوى السياسية والمدنية الإرترية حول عقد اجتماعي يكون منطلقا لضمان حقوق جميع المكونات الإرترية وبجعل العلاقة بين الحاكم والمحكوم والعلاقات البينية بين مختلف المكونات، مبنية على عقد اجتماعي متفق عليه بينها ولا يجوز الإخلال به من أي من أطرافه.

كما قدمت الرابطة ضمن رؤيتها السياسية العامة ومنظورها الفكري لطريقة ومنهجية إدارة الدولة الإرترية، حيث طورت من خلال مؤتمراتها العامة رؤية متماسكة وقابلة للتطبيق والنجاح والديمومة، أساسها النظام الديمقراطي الفدرالي اللامركزي بتمكين جميع المكونات من إدارة شؤونها بنفسها دون تدخل أو وصاية، وأن يكون لها نصيبها في شؤون الحكم على مستوى الوطن والعمل على تطوير أدوات الحكم المحلي ليساهم في تعزيز السلام والاستقرار والنمو الاجتماعي والثقافي والاقتصادي.

ومع بيانها للمظالم، وقفت الرابطة بتعمق واهتمام كبيرين على أسباب الوهن الذي أصاب المجتمع بسبب حالة التشظي التي تعانيها التنظيمات السياسية والمدنية التي في تكوينها ووفق حاضنتها الاجتماعية تعتبر منتمية لمجتمع المنخفضات وفي واقع الأمر هذه الحالة لازمتنا منذ الرابطة الإسلامية وحتى يوم الناس هذا ونراها تتكرر ولم تسلم منها رابطة المنخفضات ذاتها، ولكن هذا يجب أن يكون دافعًا نحو تحقيق المظلة الجامعة التي دعت إليها الرابطة في وثيقتها وما فتئت تدعو إليها لأنه لا يمكن للمجتمع أن يتبوأ المكانة اللائقة به دون توحيد قواه السياسية والمدنية والمجتمعية وحتى تبدأ بإصلاح البيت الداخلي أقرت الرابطة في مؤتمرها الثاني الذي عقد في يوليو 2022م بأن تشكل لجنة حوار للتواصل مع كل الذين انفصلوا عنها في ثلاث مفاصلات متتالية كان آخرها في بداية العام 2022م بعد المؤتمر الأول.

ومهما تعاظمت الصعاب وتكاثرت المعيقات الخارجية والداخلية فإن مشروع الرابطة سوف يستمر لأنه بني على أساس متين وأن النصر سيكون حليف هذا المجتمع لأنه يناضل من أجل استرداد حقوقه وبسط نفوذه وسلطته فوق أرضه.

وكل عام ومجتمع المنخفضات يتقدم إلى الأمام خطوة وراء خطوة حتى يهيئ لأجياله القادمة أسباب العودة إلى الديار ومن ثم ضمان الأمن والاستقرار ليعيشوا فوق أرضهم مرفوعي الهامات وموفوري الكرامة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *