إن عالمنا اليوم يشهد تطورا كبيرا في بنية السيادات وفي مفهوم النظام الديمقراطي، فلم تعد تلك النظم التي تؤيد نظام الحكم الواحد أو الحكم الملكي ذات تأثير فعلي، لاسيما بعد سقوط العديد من هذه الكيانات عبر العقود الماضية. وفي ظل عدم فعالية هذه النظم السياسية في حماية حقوق الإنسان وتحقيق العدل والمساواة والسلام في مجتمعاتها، فإن النظام اللامركزي والفيدرالي برز كبديل أكثر قبولا ونجاحا في الساحة السياسية الدولية، والحق أنه يوجد في العالم اليوم حوالي 25 دولة تتبع النظام اللامركزي الفدرالي وتشمل هذه الدول بعض أكبر الديمقراطيات وأنجحها في العالم مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، والهند، والبرازيل، وألمانيا، وجنوب إفريقيا، ونيجيريا. ولا ريب أن هذا التحول الذي تختاره الدول ليس سوى دليل على نجاعة النظام اللامركزي الفدرالي في حل المشاكل السياسية لمعظم الشعوب وخاصة الشعوب ذات الثقافات المتنوعة. فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما الذي يجعل النظام اللامركزي الفيدرالي أفضل النظم السياسية في الساحة الدولية؟ ولماذا هذا العزوف عن إصلاح الأنظمة الأخرى؟ وما هي الدولة التي تشكل مثالا على فاعلية النظام اللامركزي؟
لماذا هذه المقارنة بين الأنظمة السياسية والنظام الفيدرالي؟
إن المقارنة كتوجه تهدف إلى تحديد الإيجابيات والسلبيات، ونقاط الاختلاف ونقاط التماثل بين شيئين اثنين. في سياقنا هذا، فإن المقارنة بين النظام اللامركزي الفيدرالي مثل نظام الحكم الكندي، والنظام المركزي مثل نظام الحزب الواحد الإرتري تهدف إلى تحديد نقائص الأخير وتمكننا من الحديث عن فرضية تفعيل النظام اللامركزي الفيدرالي في دولة إرتريا. في الواقع، إن الحديث عن تطبيق نظام ما في مكان ما يحتم النظر في الظروف الاستثنائية التي تسود ذلك المكان، إلى جانب العوامل الاقتصادية والدينية والعرقية والثقافية التي تميز الشعوب عن بعضها البعض. وعليه، فإن الحديث عن تطبيق النظام الفيدرالي في دولة إرتريا يدفعنا إلى دراسة العوامل الاستثنائية لدولة ارتريا بشكل معمق. وأملنا من هذه المقارنة، فرز النقاط التي يشكل تحقيقها في إرتريا نسبة نجاح عالية.
النظام الفدرالي وهاجس تشتت الدولة
قد يجادل بعض أنصار النظام المركزي بأن اتباع نظام فيدرالي يفتح الباب أمام النزعات الانفصالية ويسهل الطريق نحو تقسيم الدولة الواحدة إلى دويلات متناحرة تنشأ على أساس عرقي ولغوي معادي لما يجاورها من دول كانت بالأمس القريب جزءًا لا يتجزأ من كيان واحد. ويشيرون إلى كل ما ينتج عن ذلك من فوضى وعنف في أغلب الأحيان.
ويأخذون كدليل على ذلك دولة يوغوسلافيا الفيدرالية والمأساة التي عاشتها بعد وفاة مؤسسها جوزيف تيتو. حيث تصاعدت أصوات الخطاب القومي الانفصالي من مختلف مكونات الشعب اليوغوسلافي، واتخذ كل من المسلمين البوشناق، الصرب والكروات طريق الاستقلال والانفصال مهما كان الثمن. وكان ذلك على حساب الاتحاد اليوغوسلافي وعلى حساب الاستقرار والازدهار في المنطقة حيث فقدت الشعوب المتناحرة الكثير في حرب مدمرة عصفت بمنطقتهم لسنوات. ولكنهم يتغاضون عن حقيقة أن الاتحاد اليوغوسلافي بني على أسس هشة وكان يعتمد بشكل أساسي على شخصية الرئيس جوزيف تيتو وقبضته الحديدية، فما أن توفي حتى ظهرت التصدعات والشروخ من عدم توازن في التنمية الاقتصادية وطغيان العنصر الصربي على باقي المكونات سياسيا. إضافة للتدخلات الخارجية في إطار الحرب الباردة والناتجة عن كون يوغوسلافيا على خط الجبهة بين الشرق والغرب.
و يغفلون أيضا عن أن الأنظمة المركزية الأحادية كثيرا ما تقود دولها في نفس الاتجاه، وتتسبب في نفس النتائج، بسبب سياساتها التعسفية والظالمة تجاه الأقليات العرقية، ومحاولتها خلق دول قومية تلغي كل التنوع الثقافي واللغوي الموجود على أرض الواقع، ولنا في دولة العراق مثال حي على ذلك حيث لم ينتج نظام الحزب الواحد غير التهميش والاضطهاد في حق الأقليات العرقية و التي وصلت في بعض الأحيان لحد المجازر مما دفع العراقيين بعد الحرب لتبني نظام فيدرالي يضمن الحد الأدنى من حقوق الأقليات ويتجنب الوصول للمواجهة العنيفة مرة أخرى.
أوجه الظلم العرقي في الأنظمة المركزية
النظام الفيدرالي أو اللامركزي هو الحل الأمثل لحماية الدول المهددة بالانقسام، فالمعروف أن السبب الأول لظهور النزعات الانفصالية سواء كانت سلمية أو عنيفة هو الظلم الذي تشعر به بعض فئات المجتمع، والذي يتمثل في العديد من الصور كالتهميش الاجتماعي من محاولات لطمس الهوية الثقافية والمنع من اظهار التميز الثقافي واللغوي الذي تتمتع به كل فئة من المجتمع، أو أكثر من ذلك محاولة فرض هوية غريبة عنها وإجبارها على تبنيها عنوة. كما يظهر ذلك في عدم تساوي الفرص الاقتصادية فنجد أن بعض المناطق تحرم بشكل متعمد من الازدهار الاقتصادي، فتعيش الفقر المدقع لأجيال متعاقبة ويضطر أبناء الفئة أو المنطقة للتخلي عما يميزهم كي يحصلوا على فرصة العيش الكريم والازدهار الاقتصادي، وتقدم الحكومات المركزية حجج عديدة لعدم التساوي لكن السبب الحقيقي الكامن والمعروف هو الاختلاف الثقافي الذي تريد الحكومات طمسه والتخلص منه. ومن مظاهر الظلم أيضا ضعف أو انعدام التمثيل السياسي في الحكومة المركزية ونظام الحكم عمومًا. حيث تتعمد الحكومات وضع العراقيل وسن القوانين بشكل منهجي لعرقلة ومنع بعض المجموعات العرقية في المجتمع من دخول المعترك الساسي، والمنافسة على المناصب العليا في نظام الحكم، مما يمنع هذه الفئات من إيصال صوتها وحماية حقوقها وتحقيق العدل المجتمعي. كل هده السياسات والأساليب المتبعة تقود نحو نتيجة حتمية ألا وهي عدم الاستقرار الاجتماعي والذي يمكن أن ينزلق إلى العنف والثورة ثم الانقسام.
النظام اللامركزي كحل ضد الانقسام والتشتت
لتجنب النتائج المدمرة التي استكشفناها فيما سبق، لجأت العديد من الأنظمة في العالم إلى تبني أنظمة لامركزية أو فيدرالية، لما رأت فيها من إيجابيات وفوائد على مختلف الأصعدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فقامت بالانتقال إلى هذا النمط المميز ، بعد وضع أسس دستورية وقانونية قوية، تضمن التماسك الداخلي للدولة وتقطع الطريق أمام أي نزعة انفصالية، قد تحاول في المستقبل استغلال الوضع القائم لخلق القلقلة والاتجاه نحو الانفصال.
فوائد النظام اللامركزي من منظور الحفاظ على الهوية المحلية وتجنب الاضطرابات الداخلية
في تناقض صارخ مع ما ذكرناه سابقا من الظلم الناتج عن اضطهاد الأنظمة المركزية، نرى أن النظام اللامركزي يسعى كهدف رئيسي له لتثمين الاختلاف والتنوع الثقافي والعرقي في المجتمع، وإعطاء فسحة كافية وحرية للتعبير عن الهوية الخاصة بكل عرق والاستثمار في مميزات كل فئة بما يعود بالنفع والازدهار على المجتمع والدولة بشكل عام.
النظام الفدرالي المبني على أسس دستورية صحيحة وعلى التوازن بين مختلف العناصر العرقية للمجتمع يضمن الاستقرار والازدهار لهذا المجتمع، على مختلف الأصعدة. فعلى المستوى الثقافي مثلا الحرية في الاختلاف والتعبير عن المكونات الثقافية لعرق معين التي يضمنها نظام لامركزي تمنح مجالا واسعا تزدهر فيه الثقافات المحلية وتمنح المكونات العرقية المختلفة شعورا عاما بالحرية بعيدا عن التهميش والاضطهاد الذي يواجهونه في ظل الأنظمة المركزية.
أهم المجالات التي يتجلى فيها تفوق النظام الفيدرالي على النظام المركزي هو المجال الاقتصادي، فالنظام اللامركزي يمنح حرية شبه مطلقة للحكومات المحلية لاختيار السياسات الاقتصادية التي تتناسب بأفضل شكل مع خصائص الأقاليم والمجتمعات المحلية المختلفة، فتقوم الحكومات المحلية بتحديد مجالات الاستثمار الأكثر فائدة، والتي تستغل بأفضل شكل الثروات الطبيعية الموجودة محليا، دون الحاجة للرجوع إلى الحكومة الفيدرالية قبل اتخاد كل قرار. كما يمكنها في ظل هذا النظام سن قوانين عمل تتماشى وخصائص المجتمع المحلي، ووضع قوانين للضرائب والرسوم تسمح لها بمنافسة الأقاليم المجاورة على جذب الاستثمارات واليد العاملة المؤهلة.
هذه المزايا تعود بفائدة كبيرة على الحالة الاقتصادية العامة للبلد، إذ تخلق تنوعا اقتصاديا كبيرا يتناسب مع قدرات وخصائص كل إقليم، بعيدا عن البرامج الاقتصادية العامة التي عادة ما تطلقها الحكومات المركزية متجاهلة الخصائص المحلية لكل منطقة، ونذكر أيضا إضافة لذلك الوصول لتنافسية عالية وتحسن عام في جودة الخدمات والمنتجات، كنتيجة مباشرة للتنافس بين الأقاليم والذي يسمح به النظام اللامركزية في اتخاد القرارات.
على الصعيد السياسي نجد فوائد لا تقل أهمية عن الفوائد الاقتصادية، إذ أن السماح للحكومات المحلية بتسيير شئون الأقاليم، ومنحها حرية اتخاد القرارات في مجالات محددة، يقلل من الحاجة إلى التمثيل في الحكومة المركزية، ويسمح لها باتخاذ الإجراءات والقوانين التي تراعي خصائص كل إقليم على حدة، مما يرفع حالة التهميش والاضطهاد التي قد تنشأ عن فرض قرارات وقوانين من طرف حكومة مركزية، لا تراعي خصوصيات الأعراق المكونة للنسيج المجتمعي. هذا الاجراء أيضا يقطع الطريق أمام أي عنصر عرقي يحاول الهيمنة وبسط سلطته المطلقة على باقي العناصر العرقية. بالطبع علينا أن نؤكد على ضرورة وجود دستور قوي وترسانة قانونية صلبة تحفظ التوازن على المستوى الفيدرالي وتحفظ الاستقرار واللحمة الوطنية.
هذه المزايا تثبت تفوق النظام اللامركزي حين يطبق بشكل صحيح. فهو يمنح حرية مقننة لمختلف المكونات العرقية لاتباع السياسات التي تراها مناسبة لها في إطار الوحدة الوطنية، مما يبعد شبح الانقسام والفوضى عن الوطن.