محجوب حامد آدم
عرف المشهد الشعري العربي الحديث شاعرين أثارا جدلا بعد رحيلهما وهما التونسي ” ابو القاسم الشابي ” والسوداني ” التجاني يوسف بشير ” .
ولعل محور الجدل يكمن في أن الرحيل حان وهما بعد فى مقتبل العمر إذ لم تتجاوز مسيرتهما في الحياة أكثر من خمسة وعشرين عاما، تاركين نتاجا شعريا يعد من الروائع، لشابين حصدهما الموت في وقت مبكر، ولو أمد الله في عمريهما لأثريا الساحة الشعرية في العالم العربي، إنها إرادة الله ..
لكن ستظل إشراقة )التجاني( (و) أغاني الحياة (للشابي( إمتدادا لحياتهما وتخليدا لهما فى ذاكرة قراء الشعر المكتوب باللغة العربية، تماما كما ستظل كلمات أحمد سعد محفورة في وجدان من اتيح له ان يقرأها، ان كان ارتري او لم يكن …
ما دعانى لا ن أستهل مقالى بهذه المقدمة هو الشبه القائم بين شاعرنا الراحل أحمد محمد سعد وصنويه (التجاني والشابي)، فقد كان شابا رائعا مسكون بهموم وطنه، لم يعش طويلا، مثلهما أيضا مات وهو في نضارة الصبا، تاركا عددا لا يستهان به من القصائد والمسرحيات والدراسات والمشاريع الكتابية التي (لن) تكتمل .. أهمها إصدارته الوحيدة من الشعر ديوان (عاشق إرتريا)الذي اختزن فيه الكثير من الشجن الوريف .. وضع فيه ما أردنا ان نقول .. كان أحمد سعد صاحب هم وقضية.
اذن شاعرنا سعد هو الضلع المنسى للمثلث المبدع (الشابي والتجاني وأحمد سعد).. الضلع الذي لم يجد من الأضواء ما يستحقه، في الوقت الذي لا يقل نتاجه الشعرى جودة عن غيره بل يفوقه رصانة وشاعرية وانتماء ..
الباحث فى أعمال الشعراء الثلاثة يجد الكثير من أوجه الشبه من حيث تفرد النتاج الشعرى، والعمر أو الفترة الزمنية المعاشة، صحيح ان لكل منهم مكوناته الثقافية، ومؤثراته الزمانية والمكانية، وبالضرورة رؤاه السياسية، كل هذه العوامل مجتمعة شكلت كيانه ووجدانه وذاته ومن ثم تعاطيه مع الناس والأحداث والأشياء، لكن صحيح أيضا انه ومع بعض التباين الناتج عن الملمح الخاص لكل من الثلاثة الا انهم تركوا اثار ابداعية تكشف عن تناغم فى النظرة للحياة – الوطن – والعشق … وكون ذلك الهارمونى القاسم المشترك الذى ادهش المتتبعين لتلك الاثار … ربما لان كيان الشعر يقرب المسافات كثيرا !
وإذا أهمل شعر أحمد سعد فى فترة ما ولم يجد المساحة الاعلامية الكافية (فضلا عن الومضات التكريمية)، على عكس تلك التي اتيحت للشابي والتجاني من مساحات، فمن الواجب ان ينظر الى (عدم الاهتمام) في سياقه العام … إذ ان أحمد سعد كان أحد الأصوات الإرترية .. حين كانت القضية الارترية كلها مهملة الا من اصحابها !
فقد كرس الإنسان الإرتري جل اهتمامه بقضيته المصيرية، وحشد كل طاقاته للنضال من اجل استعادة الوطن المسلوب ..
اذن بين اسوار تلك العزلة المفروضة لا غرابة في ذلك المسلك المتناسي، فقد وئدت العديد من المواهب والأصوات التي كان من الممكن أن تشكل إضافة حقيقية للفعل الابداعى فى المنطقة … تماما كما مات الانسان والنبات فى هذا الوطن بينما صمت الجميع !
الحديث عن أحمد سعد شيق وشاق وطويل، ولن يكتمل في هذه المساحة التي هي أيضا دعوة لكل الأقلام الإرترية بالمساهمة لتسطير أحرف عن (صاحب الأحرف) وأخص بالدعوة أولئك الذين عرفوا شاعرنا الراحل عن قرب ..
من أجل التواصل وربط الماضى بالحاضر فى الفضاء الابداعي الارتري المكتوب بالعربية نتناول جزء من حياته وبعض من أعماله:
ولد أحمد محمد سعد عام 1945م ببلدة حرقيقو أو (دخنو كما يحب ان يسميها أهلها) النائمة على ترانيم موج البحر إذ تستشف اشراق الصباح المتكسر فى اللجة فيغدو أسيلا رقراقا كما الاغنيات وتداعب المغيب على أوتار المراكب والصيادين الغادين بالافراح .. إنها حرقيقو المحاطة بالقواقع والأصداف الزرق، وبقلائد من قصص النضال، وعبق التاريخ .. اهلها من اصول شتى ارتبطوا بالارض والبحر ..
هناك تشكلت طفولته المبكرة على شاطئ طويل يمتد في القلب والذاكرة، وهناك تلقى تعليمه الأولي، ثم انتقل لمدينة اسمرا ليواصل تعليمه المتوسط والثانوي بمدرسة الجالية العربية {مدرسة الأمل النموذجية ـ حاليا}. ثم سافر وهو يردد :
(يعانقنى هوى وطنى
يسلمنى بطاقات تدس الوجد فى قلبى
تعانقنى هنيهات من الذكرى
تصافحنى
وتحضننى
يطير الليل من حولى
ويأتى الصبح نشوانا
اقبله
اقبله
واحضنه الى صدرى
الا ياليت اشعارى
تداوى الجرح في صدري)
هاجر أحمد سعد الى القاهرة ليلتحق هناك بكلية الهندسة الزراعية، ونال شهادتها عام 1976م … لم تغريه القاهرة بكل سحرها وجمالها وحضارتها العريقة إذ جلب معه الى شقته القاهرية الصغيرة، بلدته (حرقيقو) والأصداف وعباب البحر وكل احلام الطفولة .. (غنى الاغنيات التى حملت حنين الاشواق للوطن .. ولزمن العشق الجميل . . وذكريات الطفولة) .. وحين نظم الشعر، حمل هموم الشعب والوطن في غربته، كانت المجازر والمشانق، الظلم والاضطهاد .. والوطن المأخوذ قسرا يسكنه، بينما مرارة الذكرى تمزق أحشائه .. عاش صوتا عاليا ضد الطغيان والبطش، فجاءت كلماته قوية مؤثرة تخرج من عمق الجرح لتلك الروابي والسهول والمدن التى تفتش فى عتمة الليل البهيم عن صبح جميل :
(أنا آت
فهل تصغي
عدو النور والسلم
هنا أرضي ومحرابي
هنا صليت للحب
هنا سالت دماء العشق للوطن)
كانت مأساة إرتريا صرخة كبيرة في ضمير أحمد سعد، كانت همه الأول وحزنه الكبير .. كان ذاك القلب الطرى يتحمل تأنيب الضمير نيابة عنهم ويفرش هذا القلب لكل اقدام الثوار كى يمروا فوقه وكأنه يقول: أخطئوا لكن لا تضيعوا إرتريا!، كان انتماؤه للوطن .. وطنيا بلا إنحياز .. ثوريا بلا تحزب .. إرتريا بلا أدنى شك ! .
كتب أحمد سعد عددا كبيرا من القصائد ذات الطابع الحزين، والتي تنادى بالتحرر من قيد المستعمر، وتأسى للأرض والعشق القديم، نشر بعضها في إصدارات الثورة وعدد من الصحف والدوريات الثقافية العربية .
ديوانه الوحيد (عاشق إرتريا) ضم أغلب أعماله الشعرية بالإضافة الى أعماله المسرحية (اثنان منها غير مكتمل) والثالثة قام بتمثيلها اعضاء اتحاد الطلبة الارتريين بالقاهرة عام 1975م
(ومر القطار السريع
يشق الطريق الطويل
ودوى الضجيج المهيب
شق العنان الرهيب
وصحت وحيدا
سلامى اليك
بلاد الليالي وشوق النضال
بلاد الأماني ودرب الرجال)
كانت طموحات الراحل أحمد سعد كبيرة ومشاريعه الكتابية عديدة .. غادر الدنيا وفى عينيه حلم لم يكتمل، ولوحة لوطن فسيح جميل منقوش بمياه الاحمر وتلال سمهر وسهول القاش بركة والهضاب المستكينة لهمس الضباب، (في عتمة ذلك الليل … ولم تزل خيوط الظلمة تحجز انفاذ الاصباح .. وكانها تدرك ان هنالك .. شرخا ما فى مسار الزمن .. وفى صيرورة الحياة .. وفى تفاسير ايقاعات الشعر .. والجمال … غادر هذه الفانية الشاعر الذي منح الدنيا امل الافراح .. وعصارة ذلك السكب العطاء الثر) رحل وعشق دفين يسكن أعماقه للأرض والوطن، وهو يحلم بالحرية والاستقلال وزغاريد النصر.. رحل وهو يمني نفسه بكأس من نشوة الانتصار يجوب بها الوطن .. ورشة عطر على شوارع أسمرا في مساء يلعق آخر حبات المطر .
(هنا أرضي وتاريخي وأمجادي
هنا جذري
هنا داري وميلادي
و أنا باق
لن أرضى بليل السجن فى وطني
نداء الارض إنشادي
أنا قدر وعاصفة
تصب النار فى خصمي وجلادي
انا ماض الى دربي
وإن مت سيحمى الدار أولادي)
سيظل أحمد سعد باق فى أعماقنا تلك الوفية .. وستظل كلماته راسخة في نفس كل إرتري يعتز بأرضه وكرامته، سنحمله فينا كما حمل شوق الوطن، وحس الوطن .. وشجن الوطن .
التحية لسعد من قبل التحرير ومن بعده، ولينم قرير العين في مرقده فقد دك رفاقه حصون القهر والظلم، ودقوا طبول النصر ورفعوا رايتهم خفاقة (ولنوقد شمعات الضي .. ونعيد صدى الذكرى .. ونزين محراب الشاعر المناضل أحمد سعد .. بدفء الاحساس .. ولهيج الفواء .. وحق الايفاء .. لشهيد الكلمة .. وشهيد الشعر)
أما من تناسوا، فقد فاتهم الاحتفاء بشاعر لم يكن فى حوجة الا لمن يساند قضية وطنه، وكان يتجاسر بالنشيد: (حق شعبي لن يموت) .