لماذا النظام الفدرالي في ارتريا
قد يتساءل البعض ما الفائدة من تطبيق النظام الفيدرالي في ارتريا؟ وما هي النتائج المرجوة منه؟ وهل من المجدي المخاطرة بدفع البلاد في هذا الطريق؟ خاصة في الوقت الحالي الذي تبرز فيه الصراعات في أثيوبيا المجاورة.
للنظام الفيدرالي فوائد ومميزات عديدة تمتد من الحفاظ على الوحدة الوطنية رغم الاختلاف الثقافي، إلى غاية الازدهار والتطور الاقتصادي، وقد استكشفنا كل ذلك في الأجزاء السابقة. أما الآن علينا التعمق في النموذج الإرتري، ودراسة التركيبة المجتمعية فيه، ومدى إمكانية دفعه نحو نظام حكم لا مركزي.
إرتريا بلد متعدد الأعراق واللغات والثقافات. ففي منطقة المنخفضات التي تمتد من البحر الأحمر شرقا إلى الحدود السودانية غربا تسود الثقافة العربية الإسلامية، وفي الهضبة العليا تسود ثقافة التجرينية ذات الأغلبية المسيحية، وفي منطقة دنكاليا تسود الثقافة العفرية الإسلامية. وكل ثقافة لها عاداتها وتقاليدها ولغاتها الخاصة بها، وهذه التركيبة مشابهة جدا للعديد من الدول الفدرالية الناجحة في العالم وتعتبر نقطة انطلاق ممتازة لتطبيق نظام حكم لامركزي. فالقبول والاعتراف الصريح بهذا التنوع الثقافي والواقع الاجتماعي وتمكين كل كيان ثقافي من ممارسة حقوقه في إدارة شؤونه الذاتية بما يتناسب مع رغباته الاجتماعية والسياسية في ظل دولة واحدة هو الحل الأمثل لبسط السلام والاستقرار والازدهار الاقتصادي، وهو الأمر الذي يمكن توفيره في ظل النظام اللامركزي الفيدرالي. على عكس النظام المركزي الذي تقع مسؤولية السلطة واتخاذ القرارات فيه على عاتق الحكومة المركزية بأفرعها التنفيذية والتشريعية والقضائية، في حين أن الأقاليم يكون لديها سلطات محدودة جدا وفق تعليمات السلطات المركزية وفي كثير من الحالات ليس لديها أي سلطات وتكتفي فقط بدورها كجهاز تنفيذي تابع للحكومة المركزية.
وترتبط الحكومة المركزية بفكرة النظام الاستبدادي الذي لا يسمح بالمشاركة العامة والديمقراطية. ومع ذلك، ليس هذا هو الحال دائما. وفي حين تحاول الأنظمة العسكرية والديكتاتورية تركيز السلطة في أيدي قلة قليلة، هناك عدة بلدان ديمقراطية وعالية الأداء، مثل فرنسا وبريطانيا والدنمارك والنرويج، تستخدم نموذجا من النظام الديمقراطي المركزي. ويعتبر النظام الإرتري الحالي نظام مركزي غير ديمقراطي تعسفي يمارس السلطة المركزية لتطبيق توجهاته الطائفية غير الإنسانية على الشعب الإرتري. إن النظام اللامركزي الفيدرالي، بمفهومه المعاصر، يهدف إلى حفظ الحريات الشخصية واستقلالية المناطق الإقليمية في البلد الواحد مع إعطائها الحق في سن قوانينها الخاصة مع احترام سيادة الدستور الفيدرالي المشترك. لذلك نجد العديد من الأقاليم الفيدرالية في بلد فيدرالي مثل كندا، تستخدم لغات رسمية مختلفة وتمارس عاداتها وتقاليدها الخاصة وتتبع قوانينها المحلية وتمارس معتقداتها الفردية بحرية تامة. حيث يسعى النظام الفيدرالي إلى التوفيق بين الرغبة في الحكم الذاتي والوحدة الوطنية لشعوب مختلفة الأعراق واللغات والثقافات. ولتحقيق ذلك يتبع النظام الفيدرالي منهجا محددا لسلطات كل من الأقاليم والدولة الاتحادية بسن دستور مكتوب يحكم قواعد ممارسة السلطات في الاتحاد الفيدرالي وتشكيل دولة مؤسسات لضمان توافق كل مناطق الدولة الفيدرالية. وللحكومة الاتحادية والحكومات الإقليمية سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية مستقلة وفق الدستور.
وبالنظر مجددا في النظام الفيدرالي الكندي كمثال، نجد أن الانقسام اللغوي والثقافي وتمركز المجموعات الفرنسية في إقليم كوبيك والمجموعات الإنجليزية في الأقاليم الأخرى دفع كندا إلى الاعتراف بحتمية الازدواجية بين الحكم المركزي والحكم الإقليمي. وبما أن هذا التقسيم قائم بالأساس على التباين اللغوي، فإن كندا تعتبر بذلك فيدرالية الهوية لا فيدرالية الكفاءة. ويركز الدور الرئيسي للحكومة الاتحادية على ضمان ودعم الأداء الاقتصادي للبلاد. أما مهامها الأخرى فتتضمن الدفاع الوطني، والتجارة المحلية والدولية، والهجرة، والنظام المصرفي والبنكي، والقانون الجنائي، وحق صيد السمك.
وتشرف الحكومة الاتحادية أيضا على صناعات مثل صناعة الطائرات، والسفن، والسكك الحديدية، والاتصالات، والطاقة الذرية. أما السلطات الإقليمية فتكون مسؤولة عن قضايا التعليم، والحقوق الفردية والملكية، وإدارة العدل، ونظام المستشفيات، والمصادر الطبيعية داخل حدودها، والضمان الاجتماعي، والمؤسسات البلدية والصحية، وتطوير الأراضي، وأنظمة التجارة المحلية، والنشاطات الثقافية والمدنية. وهكذا يعتبر هذا النظام السياسي نموذجا للنظام التعاوني الديمقراطي حيث تعتبر المؤسسات الحكومية شريكة في الحكم من أجل المصلحة العامة. ومن المفترض أن النظام اللامركزي الفيدرالي يكون أنسب النظم السياسية للمجتمع الإرتري؛ لأنه مجتمع يتكون من هويات ثقافية ولغوية متعددة، ويمكن أن يتيح الحكم الذاتي الإقليمي لكل من أقاليم المنخفضات والمرتفعات ودنكاليا حق إدارة أقاليمها. كما يمكن لكل إقليم أن يمارس سلطاته المحلية دون التضارب مع السلطات الاتحادية وفق دستور ديمقراطي يتفق عليه. هذا بعكس النظام المركزي الحالي غير الديمقراطي الذي يسعى إلى فرض ثقافة واحدة على الشعب الإريتري وتجاهل الثقافات العريقة الأخرى دون جدوى.
تقسيم القوى:
في الحكومة الفيدرالية، يتم تقسيم سلطات الإدارة بين المركز والوحدات. ويمكن توزيع الصلاحيات بطريقتين مختلفتين: فإما أن ينص الدستور على الصلاحيات التي تتمتع بها السلطة المركزية ويترك الباقي للوحدات الاتحادية، أو أن تختار الوحدات الاتحادية الصلاحيات وتترك الباقي للسلطة المركزية. وتكون كل من الحكومة الفيدرالية وحكومات الأقاليم المستقلة مهتمة بمجالات سلطاتها فقط دون أن تخضع إحداهما للأخرى، وتشتق كلاهما صلاحياتهما من الدستور الذي يعد القانون الأعلى للبلاد. ولعل أكبر مكاسب تقسيم القوى هو بسط الحريات الفردية، واحترام حقوق الإنسان، وتعزيز الوحدة الوطنية، وبلورة المواطن الفعال والمشارك في الحياة السياسية الساعي إلى تحسين أحوال البلاد.
التعاون الحكومي:
يعد التعاون الحكومي بين مختلف قطاعات الدولة الفيدرالية وسيلة لكسر الحاجز الثقافي واللغوي في إطار البلد الواحد. والواقع أن الازدواجية بين الحكم الإقليمي والحكم المركزي لها القدرة على حل الاختلافات التي غالبا ما يكون مصدرها الرغبة في المصلحة الإقليمية والتباين الثقافي واللغوي وتقاسم السلطة والثروة، ويتيح الفرصة للتعاون والتفاهم والتعايش السلمي. فالحكم الإقليمي من شأنه أن يمكن المواطنين من اختيار لغتهم الرسمية دون صدام مع اللغات الأخرى وإدارة شؤونهم المحلية وتشريعاتهم الخاصة بما لا يتعارض مع معتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم.
ما هو النموذج المقترح للنظام اللامركزي في إرتريا؟
الوعي بوحدة إرتريا يجب أن يكون المبدأ الأساسي الذي ينطلق منه الجميع في اتجاه الفيدرالية والذي يبنى على أساسه دستور قوي تحميه مؤسسات فيدرالية صلبة تكون مهمتها الأساسية حفظ استقلال ارتريا، ووحدتها وتماسكها الداخلي. وفي نفس الوقت حفظ التوازن بين العناصر العرقية المختلفة وضمان المساواة بينها على المستوى الفيدرالي وقطع الطريق أمام أي فئة تحاول الانفصال أو الهيمنة على العناصر العرقية الأخرى. والاحتفاظ بمهام الدفاع الوطني والعلاقات الدولية على المستوى الفيدرالي.
ثم من هذا المنطلق يتم خلق مؤسسات محلية تحاكي في شكلها المؤسسات الفيدرالية بفروعها المختلفة التشريعية والتنفيذية والقضائية ولكن بشكل يأخذ بعين الاعتبار خصوصيات كل إقليم على حدة وبالشكل الذي تقره المجموعة العرقية المعنية. ويتم تحديد مدى استقلالية وسلطة هذه المؤسسات المحلية، حيث تمنح لها حرية اختيار اللغة والثقافة الرسمية وكل ما يتبع عن ذلك من تعديلات على برامج التعليم والأعياد الرسمية وغير ذلك.
كما تمنح لها الحرية أيضا في اختيار المسار الاقتصادي المناسب لها بما يتوافق مع خصوصيات الإقليم والتركيبة الاجتماعية المتوفرة وبالشكل الذي يضمن الاستغلال الأمثل للثروات الطبيعية المحلية والكفاءات المتوفرة في الطبقة العاملة.
من الناحية القانونية يسمح لها أيضا بسن قوانين وتشريعات بما يتناسب والحاجات المحلية ويضمن الاستقرار والمصلحة العامة.
تجدر الإشارة هنا لضرورة وجود هيئة فيدرالية مستقلة تمنح لها سلطة الرقابة على التشريعات والقوانين الصادرة عن الهيئات التشريعية المحلية. وتوكل إليها مهمة الحفاظ على الوحدة الترابية واستقرار البلاد وضمان التوازن بين كل الفئات العرقية.
ماهي الفوائد المرجوة من تطبيق النظام الفدرالي في إرتريا؟
من شبه المستحيل تحقيق آمال وتطلعات الشعب الارتري في ظل نظام أحادي لا يراعي التنوع الثقافي الموجود على أرض الواقع. النظام الفيدرالي يعكس معادلة التهميش والاضطهاد العرقي، فهو يعتبر هذا التنوع ثروة ومادة خام يجب الاستثمار فيها وليست تهديدا للسلطة الحاكمة. كما أن النظام الفيدرالي يمنح الحرية الثقافية للشعب الارتري، ويفتح أمامه أبواب الابداع والابتكار ويمنحه شعورا عامًا بالراحة والحرية حين يرى كل عرق أن ثقافته الخاصة محترمة ومعترف بها وتعتبر مساوية لثقافات الفئات الأخرى المكونة للشعب الإرتري.
ضمان السلام الأهلي والتعايش السلمي بين جميع مكونات المجتمع الارتري. فالنظام الفيدرالي يبعد شبح الفوضى والصراع الداخلي الذي ينتج عادة من شعور إحدى الفئات أنها مقهورة ومظلومة فتلجأ للمواجهة العنيفة لإثبات وجودها وضمان حقوقها. حيث إن النظام الفيدرالي يلغي هذا الخطر لما يضمنه من حرية ومساواة أمام الدستور لكل أفراد الشعب الإرتري في كل مناحي الحياة. فبالقضاء على أسباب الخلافات الأساسية تضمن إرتريا الاستقرار والسلام الدائم والتعايش السلمي ما دام النظام الفيدرالي قائما ومحافظا على قوته ومبادئه الأساسية.
ولعل أهم النتائج التي يطمح إليها الشعب الإرتري هي الأثر الاقتصادي، فآماله معلقة على النظام الفيدرالي لإخراجه من حالة الفقر والسير به في طريق النمو والازدهار. وقد لاحظنا مما سبق أن النظام الفيدرالي متميز في هذا المجال، بسبب توفيره للأرضية الخصبة للاستثمار في المقدرات المحلية واليد العاملة بالشكل الأمثل، فهو يوفر الدافع الكافي للعمل والاستثمار لما يضمنه من استقرار سياسي، ويقين بأن الفوائد الناتجة عن الجهد المبذول ستعود بالدرجة الأولى للمجتمعات المحلية، ولن تذهب للحكومة المركزية. كما أن ضمان الحقوق الاجتماعية والثقافية سيساهم بشكل كبير في الحفاظ على الكفاءات المحلية، واليد العاملة المؤهلة، والحد من هجرة الادمغة التي كثيرا ما تضطر للهجرة بسبب الظلم السائد في ظل النظام الاستبدادي القائم ومحاولة البحث عن فرص عيش أفضل في المهجر.
خاتمة:
كلما فُعِّل النظام الفيدرالي، كلما احترمت الاختلافات اللغوية والعرقية والطائفية سياسيًا وفعليًا. فالنظام الفيدرالي يقوم أول ما يقوم على الاتحاد وتمكين الشعوب من تقرير مصيرها وتحديد سياساتها واتخاذ قرارتها الخاصة، فتتحمل مسؤوليتها كأقاليم في حال نجاح تدابيرها أو فشلها. أما السلطة المركزية فتظل قائمة حتى لا تقسم الدولة إلى طوائف وتسود فيها الفوضى. وإن كان تفعيل النظام الفيدرالي في دولة مثل إرتريا سيعود بالنفع على حل نزاعاتها الداخلية، فإن انتداب هذا النظام يتطلب دراسة معمقة. والحق أن الظروف السياسية والاجتماعية وحتى الجغرافية في دولة إرتريا مختلفة عن تلك الموجودة في بلدان ديمقراطية فيدرالية مثل كندا. ومعلوم أن الشعب الإرتري خاض تجربة صعبة إبان الحكم الفيدرالي المؤقت مع الاستعمار الأثيوبي، ولكن لا يجوز فقدان الأمل في النظام الفيدرالي برمته بسبب هذه التجربة وإنما لا بد أن يحاول الإرتريون أقلمة هذا النظام الناجح والمجرب عالميا وفق خصوصياتهم المحلية لأنه هو النظام السياسي الملائم لتكوينهم السكاني وهو النظام المطبق بنجاح في دول عديدة ذات تركيبة سكانية مماثلة. بذلك يجب أن نسعى لأن يكون النظام السياسي القادم في إرتريا نظاما ديمقراطيا لامركزيا فيدراليا يضمن الحقوق ويطالب بالواجبات في ظل دولة ديمقراطية تدعو إلى العدل والمساواة والتآزر.
المراجع
1-Autonomous Communities of Spain; Wikipedia
2- Catalan independence movement; Wikipedia –
3-Catalan separatist leader calls for peaceful resistance to Spain takeover; Los Angeles Times
4- The Basque country: Spain’s effective but expensive antidote for secession; Reuters