المثال الإسباني: (التأسيس، الوضع الحالي ومواجهة الحركات الانفصالية):
إسبانيا بلد متنوع يتكون من عدة مناطق مختلفة ذات هياكل اقتصادية واجتماعية مختلفة، بالإضافة إلى لغات وتقاليد تاريخية وسياسية وثقافية متنوعة، كإقاليم كتالونيا، بلاد الباسك وغاليسيا التي تعتز بلغاتها وثقافتها المميزة إلى درجة التعصب.
فبالرغم من توحيد الأراضي الإسبانية بأكملها تحت حكم واحد في عام 1479، احتفظت الأقاليم المكونة بالكثير من وجودها المؤسسي السابق، بما في ذلك الاستقلال التشريعي أو القضائي أو المالي المحدود. واحتفظت أيضًا بمجموعة متنوعة من العادات والقوانين واللغات والعملات المحلية حتى منتصف القرن التاسع عشر.
منذ القرن الثامن عشر فصاعدًا، حاول الملوك إقامة نظام أكثر مركزية. بلغ هذا ذروته في عام 1833، عندما تم تقسيم إسبانيا إلى 49 (الآن 50) مقاطعة، والتي كانت مهمتها في الغالب تطبيق السياسات التي يتم إقرارها في مدريد.
وخلال الفترة الممتدة بين سنة 1833 وبداية الحرب الأهلية في عام 1936 تمت محاولات عديدة لإقامة حكم ذاتي، خاصة في المناطق الأكثر اختلافا مع مدريد – ككتالونيا، الباسك وغاليسيا لكنها فشلت لأسباب عديدة.
خلال النظام الديكتاتوري للجنرال فرانكو، تم فرض المركزية بقوة كوسيلة للحفاظ على “وحدة الأمة الإسبانية”. حيث كان فرانكو يعتبر القوميات المحلية تهديدا رئيسيا لحكمه ولوحدة اسبانيا، فحاربها بعنف وقمع شديدين، ولكن النتائج جاءت عكسية إذ ازداد في عهده الدعم للحركات الانفصالية وكذا المطالبة بالاعتراف برؤية تعددية للأمة الإسبانية.
عندما توفي فرانكو في عام 1975، دخلت إسبانيا مرحلة انتقال نحو الديمقراطية. كانت أصعب مهمة قام بها البرلمان الإسباني في عام 1977 بصفته جمعية تأسيسية هي الانتقال من دولة مركزية موحدة إلى دولة لامركزية بطريقة تلبي مطالب القوميات المتعددة داخل اسبانيا.
التقى رئيس وزراء إسبانيا آنذاك، أدولفو سواريز، مع جوزيب تاراديلاس، رئيس كتالونيا في المنفى. تم الاتفاق على استعادة الإقليم لصفة الحكم الذاتي ونقل الاختصاصات المحدودة أثناء كتابة الدستور. بعد فترة وجيزة، سمحت الحكومة بإنشاء “مجالس أعضاء في البرلمان” مدمج من قبل نواب وأعضاء مجلس الشيوخ من مختلف مناطق إسبانيا، حتى يتمكنوا من تشكيل “أنظمة ما قبل الاستقلال” لمناطقهم أيضًا.
كان على مؤسسي الدستور أن يحققوا توازنًا بين وجهات النظر المتعارضة لإسبانيا – من ناحية، وجهة النظر المركزية الموروثة من العناصر الملكية والقومية في المجتمع الإسباني، ومن ناحية أخرى الفيدرالية والنظرة التعددية لإسبانيا باعتبارها “أمة الأمم”. أرادت الأحزاب القومية دولة متعددة الجنسيات ذات نموذج فيدرالي أو كونفدرالي، في حين أراد اتحاد الوسط الديمقراطي الحاكم وتحالف الشعب (AP) الحد الأدنى من اللامركزية؛ كان حزب العمال الاشتراكي الإسباني (PSOE) متعاطفًا مع النظام الفيدرالي.
في النهاية، وجد الدستور، الذي نُشر وتمت المصادقة عليه في عام 1978، توازنًا في الاعتراف بوجود “القوميات والمناطق” في إسبانيا، ضمن “وحدة الأمة الإسبانية التي لا تنفصم”. من أجل إدارة التوترات الموجودة في الانتقال الإسباني إلى الديمقراطية، تجنب واضعو الدستور الإسباني الحالي إعطاء تسميات مثل “الفيدرالية” للترتيبات الإقليمية، مع تكريس الدستور للحق في الحكم الذاتي أو الحكم الذاتي من “الجنسيات والمناطق”، من خلال عملية نقل للسلطة إلى “المجتمعات المستقلة” وهو الاسم الرسمي للمناطق ذات الحكم الذاتي في إسبانيا التي كان من المقرر إنشاؤها.
ومن هذا المنطلق سارت اسبانيا في طريقها لتصبح حاليا الدولة الأوروبية الأكثر تبنيا للحكم اللامركزي.
الآثار الملموسة للنظام اللامركزي في إسبانيا:
مع تنفيذ مجتمعات الحكم الذاتي، تحولت إسبانيا من كونها واحدة من أكثر البلدان مركزية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى كونها واحدة من أكثر البلدان لا مركزية؛ على وجه الخصوص، كانت الدولة التي نمت فيها مداخيل ومصاريف الهيئات اللامركزية (المجتمعات المستقلة)، حيث احتلت المرتبة الأولى في أوروبا بحلول عام 2015 واحتلت المرتبة الخامسة بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في نقل الضرائب (بعد كندا وسويسرا والولايات المتحدة والنمسا). من خلال حالة الحكم الذاتي التي تم تنفيذها بعد إقرار الدستور الإسباني لعام 1978، تم الاستشهاد بإسبانيا باعتبارها “رائعة بالنسبة لمدى السلطات التي تم نقلها سلميًا من الحكومة المركزية إلى الحكومات المحلية على مدى الثلاثين عامًا الماضية” و “دولة لا مركزية بشكل غير عادي”، حيث تنفق الحكومة المركزية 18٪ فقط من الإنفاق العام، 38٪ من قبل الحكومات الإقليمية، و13٪ من قبل المجالس المحلية، والباقي 31٪ من قبل نظام الضمان الاجتماعي.
من حيث الموظفين، بحلول عام 2010، تم توظيف ما يقرب من 1،350،000 شخص أو 50.3 ٪ من إجمالي موظفي الخدمة المدنية في إسبانيا من قبل المجتمعات المستقلة.
كيف صمد النظام اللامركزي الإسباني أمام الحركات الانفصالية؟
لقد مر النظام الإسباني بالعديد من التحديات الصعبة وتعرض لهزات عنيفة كادت تؤدي لتقسيم اسبانيا وتحلل الدولة، لكنه كان في كل مرة يخرج منتصرا.
إقليم الباسك
من بين أكبر المصاعب التي واجهت اسبانيا بعد إقرار نظام المجتمعات المستقلة هي حركة تحرير بلاد الباسك، حيث كانت تسعى لتحرير الإقليم عن طريق المقاومة المسلحة وظلت مصممة على هدفها لسنوات عديدة وكانت جماعة إيتا في إقليم الباسك، التي قتلت أكثر من 850 شخصًا في حملة استمرت عقودًا لإقامة دولة منفصلة، قد أنهت فعليًا مقاومتها المسلحة عندما سلمت أسلحتها. وهكذا تلاشت الحملة العنيفة من أجل الاستقلال. ما يثبت نجاعة المقاربة الإسبانية في مواجهة تلك الأزمة حيث عمدت الحكومة المركزية للعديد من الإجراءات الناجعة في مختلف المجالات، أهمها القيام بإصلاحات سياسية منحت الحكومة الحكم الذاتي في إقليم الباسك حريات أكبر للتصرف في الإقليم ولكن دون المساس بالوحدة الترابية لإسبانيا كما اتفقت حكومة إقليم الباسك مع الحكومة المركزية على استقلالية اقتصادية شبه تامة. حيث يحتفظ الإقليم بالضرائب المحصلة بشكل شبه كامل دون تمريرها للخزينة المركزية.
هذا الإصلاح الاقتصادي والسياسي سحب البساط من تحت أرجل المقاومة المسلحة وأفرغها من مضمونها فالازدهار الاقتصادي الناتج عن تلك الإصلاحات قلص الدعم الشعبي للحركة الانفصالية وزاد الدعم للسياسيين الباسكيين المؤيدين للحكومة المركزية. والإحصاءات الحالية تبين أن أقل من 17 بالمئة من سكان الباسك يريدون الاستقلال في الوقت الحالي.
نلاحظ من هذا أن الحكومة الإسبانية اتجهت نحو منح المزيد من الاستقلالية للإقليم بغية الحفاظ على الوحدة الترابية للبلاد وهو معاكس تماما لما قد تفعله بعض الدول المركزية التي تتجه مباشرة للمزيد من القمع والاضطهاد.
كتالونيا
الوضع في كتالونيا كان مختلفا نوعا ما، فالتيار الانفصالي هناك كان سلميا بشكل عام ولكن نضاله السياسي كان شرسا للغاية ومعاديا بشكل كبير لحكومة مدريد ولم يتوقف عن تنظيم استفتاءات استقلال أرقت مدريد كثيرا خاصة وأن نتائج الاستفتاءات كانت تتجه بشكل متزايد نحو الاستقلال مع مرور السنوات. ومما زاد الوضع سوءا هو تدهور الوضع الاقتصادي العالمي عامة والاسباني خاصة حيث لم يكن بالإمكان مناقشة إصلاحات اقتصادية مع كتالونيا كما كان الحال مع إقليم الباسك حيث أكدت التقارير أن الخزينة المركزية ستفقد 13 بالمئة من مداخيلها إذا تخلت عن ضرائب إقليم كتالونيا.
في هذه الحالة تجلى بشكل واضح الجانب الدستوري والقانوني الذي يحفظ تماسك الدولة الإسبانية حيث لجأت الحكومة إلى إجراءات قانونية لإلغاء نتائج الاستفتاء المحلي الذي أجري في كتالونيا وقامت بحل الحكومة وإيداع السياسيين الانفصاليين الحبس مما أدى لتراجع الحمى الانفصالية ودعوة السياسيين الانفصاليين إلى مواصلة النضال السلمي دون القيام بإجراءات متسرعة قد تضر بكتالونيا خاصة وبإسبانيا عامة.
من هذه التجربة تتضح قوة الدستور الاسباني في الحفاظ على السلامة الإقليمية للبلد وعلى الرغم من أن هذه الإجراءات قد تبدو صارمة وتعسفية للبعض إلا أنها تمت وفقا للدستور وبسبل قانونية اتفقت عليها جميع العناصر العرقية المكونة للشعب الإسباني.