في المجتمعات التي ترزح تحت قبضة الديكتاتوريات، لا تكتفي السلطات باعتقال الناس وتجويعهم وقتلهم بل تتسلل إلى وعي الناس واغتيال روحهم وتدمير ثقتهم ببعضهم البعض، فواحدة من أخطر الظواهر التي تصنعها الأنظمة الاستبدادية هي تلك الحالة التي يصبح فيها الإنسان ساخطًا بدرجة لا يميز فيها بين نظام الحكم ومعارضيه، ويصل به الأمر أن يفرغ كل سخطه وسخريته على من يفترض أنهم في صفه، حتى تكاد تذوب في عقله الفوارق بين النقيضين.
إن هذا المسلك في النقد ورغم أنه يبدو مشروعًا في ظاهره لكن في حقيقته هو نتيجة لحالة إحباط ممنهجة، تصنعها الأنظمة القمعية وذلك بتشويه صورة المعارضين ، وتهدف من ذلك إلى أن تتساوى مع معارضيها في أذهان الناس مما يشيع اليأس وثقافة عدم جدوى أي عمل ضد الأنظمة الديكتاتورية ، وإنصراف الناس عن المشاريع الحقيقية التي تشكل خطرًا على الأنظمة الديكتاتورية. تخلق الديكتاتوريات هذه الحالة حتى تدفع الناس إلى التسليم وترسخ في عقولهم وقلوبهم بأن التغيير مستحيل وأن مهادنة الظلم أفضل من مواجهته ، وهكذا تكسب عمرًا جديدًا تجدد فيه خلاياها لتواصل في جرائمها ضد الوطن والمواطن.
إنه من الطبيعي في أي بيئة معارضة وجود أخطاء ونواقص ودورات من عدم الفاعلية، وهذا يتطلب النقد والتصويب، لكن الخطر يكمن في أن يتحول النقد إلى أداة إحباط بدل أن يكون وسيلة تصويب، فالنقد الواعي يفتح آفاق الحلول ويقترح البدائل وينهض بالعمل وهو قادر على كشف الأخطاء ومعالجتها، ودفع العمل للأمام وذلك دون أن يوقع الناس في فخ السخرية أو تدمير ثقتهم ، أما النقد الهدام فيشيع الإحباط ويثبط العزائم.
إن تأثير ذلك في المجتمعات المقهورة لا يحتاج إلى كثير ملاحظة فرغم ما تتعرض له هذه المجتمعات من قتل وتشريد إلا أن الأنظمة الديكتاتورية تتلاعب بوعي الكثيرين وتعطل كثير من الطاقات وذلك بتشويه الأصوات المعارضة وزرع عدم اليقين في نجاحهم وإشغالهم بالدفاع عن سمعتهم و إثبات وطنيتهم بدلا من أن تفعل ذلك الأنظمة الديكتاتورية.
إن الخروج من هذا الوضع يتمثل في زيادة الوعي وبناء الثقة وفهم الواقع والصبر والإطلاع على تجارب الشعوب الأخرى ، فالتغيير عملية بطيئة تحتاج إلى وعي تراكمي، وأن المعارضة ليست كيانًا خارقا بل هي مواقف لمجموع الأفراد الواعيين الذين قرروا ألا يصمتوا وأن أي جهد مقاوم مهما كان محدودًا هو جزء من معركة طويلة، وأن السخط ليس دائمًا موقفا موضوعيًا فقد يكون إنعكاس لحالة اليأس.
إن المجتمعات التي تستسلم لحالة الإحباط، وتذوب لديها الفوارق بين الحاكم القمعي و معارضته هي مجتمعات تعيش حالة موت بطيء. أما المجتمعات التي تصحح وعيها، وتدرك أن المعارضة تبدأ من الفرد، وتؤمن بالنقد البناء هي التي تصنع التاريخ.
محمد عبدالله