المعركة المؤجّلة: أزمة إريتريا بين طغيان الهيمنة القومية وسؤال المكونات المغيّبة

 

في الوقت الذي تستعد فيه دول الإقليم لتجاوز أزماتها، وإعادة بناء سردياتها الوطنية على أسس المشاركة والمواطنة، تقف إريتريا في خانة الماضي وشعبها غارق في صمتٍ كثيف، مخيف، كأنه فقد القدرة على الصراخ. لم تعد المأساة الإريترية مجرد استبداد سياسي كلاسيكي، بل تحوّلت إلى مشروع هيمنة قومية مركّب، يستهدف المكونات الوطنية في صميم وجودها: أرضًا، وهويةً، وذاكرةً.

النظام الإريتري، الذي يحكم البلاد منذ أكثر من ثلاث عقود بقبضة حديدية، لم يُخفِ يومًا طبيعته الأحادية، لكنه في السنوات الأخيرة نزع حتى القشرة التي كانت توحي ببنية وطنية. لم يعد يخجل من كشف أولوياته؛ فالأرض تُنزع من أصحابها تحت مسميات مشبوهة (إعادة التوزيع، التنمية، السيادة)، والهوية الثقافية تُحاصر، والتعليم يُفرّغ من لغته ومرجعيته، وأبناء المكونات الأخرى يتم اقتلاعهم من مجتمعاتهم وتجنيدهم، لا لحماية الوطن، بل لتزيين مشهد زائف لصورة النظام على المستوى الإقليمي، ومهرجاناته التي تُنفق عليها الأموال لتجميل وجه سلطةٍ ترتكب في الخفاء كل ما يناقض “الوطنية”.

هذه القوات التي تُسمى زورًا “قوات الدفاع الإريترية” ليست سوى مليشيات عقائدية، تم تأسيسها وتسخيرها لحماية رأس النظام وحاضنته الاجتماعية. لا تنتمي إلى الوطن، بل تنتمي إلى فكرٍ يرى في الدولة مجرد غلاف لسلطة الزعيم، وفي المواطن مجرد تابع أو عدو محتمل.

لا يمكن فهم ما يجري دون قراءة المشهد بمنطق الجغرافيا المقموعة. كل مكوّن إريتري غير محسوب على الحاضنة القومية للنظام وتوجهاته الطائفية البَيِّنة، هو هدف في مشروع إعادة هندسة الهوية الوطنية. هذا ليس صراع سلطة، بل صراع وجود، يستهدف الذاكرة الجمعية، ويعيد إنتاج التاريخ من زاوية واحدة، تمحو التنوع، وتصنع “وطنًا” يشبه قومية واحدة، ذات عقيدة واحدة، ولسان واحد، ورؤية واحدة.

ومع ذلك، لا يزال كثيرون يتعاملون مع هذه الأزمة بمنطق الانتظار: انتظار تغيير مفاجئ، أو انقسام في الجيش، أو صحوة في المعارضة. لكن هذا الانتظار لم يعد ترفًا، بل تواطؤًا ضمنيًا.
مما يزيد من قتامة المشهد، أن “المعارضة الإريترية” لم تنجح، حتى اللحظة، في تقديم مشروع بديل. فبعض أطيافها تنكر تماما أن أصل المشكلة يكمن في الهيمنة القومية، جهلًا أو خوفًا أو خجلاً أو لحسابات قصيرة النظر. وبعضها الآخر يعيش في دوائر نَخبوية من التنظير، دون أن يتصل بالشارع الحقيقي الذي يتعرّض يوميًا لسياسات الاقتلاع. هي معارضة لا تمتلك خارطة طريق، ولا مشروع دولة، ولا تصور لبنية الوطن بعد زوال الاستبداد.

وفي غياب هذا المشروع، يظلّ النظام هو الوحيد القادر على “إنتاج الواقع”، حتى وإن كان واقعًا مشوّهًا. فالمشهد السياسي لا يُترك فارغًا؛ مَن لا يملأه يُقصى، ومَن يتردّد يُمحى.

هنا، يُطرح السؤال الأهم: ماذا تنتظر المكونات الوطنية؟

لقد جرّدت من الأرض، وحرمت من لغتها، وثقافتها وتم سحب شبابها إلى معسكرات النظام، وسُحقت أصواتها في الداخل والخارج.

فهل تبقى في موقع الضحية الصامتة؟

هل تستمر في الاتكال على معارضة أثبتت عجزها، أو على تدخل خارجي لا يأتي؟

الوقت لم يعد يسمح بمساحات رمادية. فكل تأخير في التوحّد خلف مشروع وطني جامع، هو مساحة يملؤها النظام بسياسات التذويب والإقصاء. المعركة مؤجّلة فقط في وعي المترددين، لكنها قائمة في الواقع: في المدارس التي تُحرّف التاريخ، في المدن التي تُباع أراضيها، وتتغير ديمغرافيتها، في الأسماء التي تُطمس، وفي الجنود الذين يُساقون لخدمة طاغية لا يرى فيهم سوى أدوات.

الحق لا يُمنح، بل يُنتزع. وهذا لا يكون إلا حين تدرك المكونات الوطنية المقصاة أن استعادة الوطن تبدأ منها، من معرفتها لذاتها، وشعورها بالمخاطر المحدقة بها، لا من مؤتمرات المعارضة، ولا من نداءات الخارج.
المعركة الحقيقية هي معركة وعي، معركة ذاكرة، معركة إعادة تعريف الوطن خارج منطق الهيمنة المطلقة لمكون واحد.

وإذا لم تنهض المكونات الوطنية الآن، فإنها قد تستفيق يومًا لتجد أن ما كان مؤقتًا أصبح دائمًا، وأن ما كان طارئًا أصبح قدرًا.

  • فهل نؤجّل المعركة مرة أخرى، أم نبدأ بكتابة فصولها من جديد… لكن هذه المرّة بأيدينا نحن؟

جعفر محمد نائب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *